مقدمة:
تستهدف هذه الدراسة عبر تركيزها على التعليم الديني اليهودي ، ليس فقط الكشف عن محتوى هذا التعليم وأثره في بناء الشخصية اليهودية السلبية، بل وأيضاً، الكشف عن دور الصهيونية العالمية في توظيف هذا التعليم واستحضاره وإعادة تشكيله بما يتفق وأهدافها التوسعية والنفعية، وفرض روح الإحساس بالعزلة الشاملة والحصار الدائم على اليهودي في كل البلدان، وخلق جيل يهودي متعّصب، منغلق دينياً ونفسياً ومؤيد للغيتو الدولي الكبير " إسرائيل".
السلوكية اليهودية" الفكرية - الحركية" نمت وترعرعت في جو مشبع بالأفكار الدينية السلفية التي كانت ولاتزال المحور الرئيسي الذي تدور من حوله كل شؤون الحياة اليهودية، نظراً للعزلة التي عاشوها عبر التاريخ في أكثر بلدان العالم القديم والحديث والمعاصر، والتي تعتبر ركناً هاماً من أركان الديانة اليهودية. فقد ظلّت العزلة اختيارية في أوروبا حتى الفترة التي أصدر فيها البابا " بولس الرابع " نشرة بابوية تقضي بعزلة اليهود إجبارياً سنة 1555 ميلادي، على الرغم من أنّ هذا الأمر لم يكن مهماً، نظراً لأنّ اليهود أنفسهم لم يكونوا ليرغبوا في الاختلاط لأسباب دينية وطقسية. وقد استمّر هذا حتى الثورة الفرنسية 1848-1850 التي منحت اليهود حقوق المواطنة، وخضعوا للقوانين الفرنسية.
التعاليم الدينية اليهودية كانت دوماً وراء هذه العزلة، لأنّها تحضُّ على الاستعلاء والتوجّس من الأغيار، وعدم الاختلاط بالشعوب وضرورة التقّيد بالقوانين والأنظمة الدينية الصارمة، وقد لعب الحاخامون والأثرياء اليهود دوراً هاماً في تكريس هذه العزلة وتعميق الشعور بالانتماء إلى عرق متضامن متفوق ، فأنشأوا في أحيائهم المغلقة كلّ أسباب التعلّق بهذه التعاليم والالتزام بها، كالمعبد والمقابر الخاصة والطقوس والذبائح والأزياء الخاصّة.(1)
المعبد هو المركز الدّيني والثقافي والتعليمي والاجتماعي. وقوانين " الشولحان عاروخ" تنّظم اللوائح الأخلاقية للحياة الخاصّة، ومدارسهم التعليمية تبدأ بـ" الحيدر" وهو المدرسة الابتدائية حيث يتعّرف الطفل خلالها وهو في سن الرابعة على هويته وأسلافه ويدرّب على الاحتراز من الأغيار وعدم مخالطتهم وتزرع في عقله الباطن فكرة التفوق والاختيار والقداسة، ويتعّلم الأبجدية العبرّية وقصص أسلافه وأعمالهم المجيدة وفتوحاتهم وما أصابهم من النفي والتشريد على أيدي الكفرة، فينشأ الطفل حاقداً مؤمناً بعدالة قضيته وصحة انحداره من أعرق الأصول. وفي سن المراهقة يستّمر نظام التعليم اليهودي مع " تلمود توراة" وتتوّج بـ " اليشيفا"، الأكاديمية التلمودية التي تماثل الدراسات العليا، فيتشبّع اليهودي بالأفكار الدينية التعصبية، وتتبلور شخصيته الانعزالية المتوجسة، والمؤهلة لتقبّل العدوان.(2)
من خلال هذا التعليم الديني المشبع بالغيبية والعنصرية، يقف اليهودي من الدولة التي يقيم فيها موقف اليهودي المتفّوق المقدّس المعارض للقومية الحقيقية بقوميته الوهمية التي صوّرها له حاخاموه على أنهّا حقيقة ثابتة، ويشعر أنّ من حّقه الانفصال عن سائر البشر. في هذه الأحياء اليهودّية المنعزلة بالطقوس والتعاليم الدينية الغيبية والعنصرية، حصدتْ الحركة الصهيونية ثمارها بعد أن لمستْ تأثير هذه التربية الدينية على عقلية النشء اليهودي. وعلى الرغم من أنّ حركة التنوير اليهودية" الهسكالاه" التي ظهرت في العصر الحديث قد دعتْ إلى التحرّر من الأفكار الغيبية التي تنتظر الخلاص الذي سيأتي على يد المسيح، وطالبت أن تكون الدراسات في مدارس التلمود مقصورة على الحاخاميين وحدهم، وأن يرسل أولاد اليهود إلى مدارس الأغيار حتى يتّقنوا كلّ فنون العلمانية، فإنّها أي " الهسكالاه" لم تكن لتريد التخّلي عن التعاليم الدينية ، بل كانت تسعى لتحقيق الخلاص بالاعتماد على الذات دون انتظار المسيح، ونقل الأفكار الدينية إلى حيّز الواقع.(3)
لقد أرادت هذه الحركة أن تدفع اليهودي للتحرّر من الأفكار الغيبية ويتطلع إلى رؤية روابطه مع الماضي اليهودي متداخلة مع ميوله نحو قيم الثقافة العلمانية، فهي لم تطالبه أن يتخّلى عن إرثه الثقيل ويرفض تبعيته لهذا الإرث. إنّما أرادت أن يحافظ على ذاتيته بطريقة جديدة ، وهذا ما تلقّفته الحركة الصهيونية وعلى أساسه رفعت شعارها" لنكن شعباً مثل سائر الشعوب" وذلك عن طريق خلق" جيتو" دولي كبير، فبدلاً من الاندماج بالشعوب يجب على اليهود أن يتحوّلوا إلى شعب يماثل الانكليز أو غيرهم بإنشاء وطن قومي له يغدو فيه سيداً.(4)
لقد ساهمت حركة التنوير اليهودية بشكل أو بآخر في الإعداد الفكري للصهيونية ، حيث أحيتْ اللغة العبرية وأذكتْ نيران الحبّ لصهيون وفلسطين، ومجدّت الأسلاف والبطولات العبرية القديمة أمثال " شمشون وشاؤل ويشوع وداود". وسعتْ لتحويل الشخصية اليهودية إلى شخصية منتجة ممتلئة بالحيوية، متشرّبة بالثقافة اليهودية والولاء الكامل لتعاليمها الدينية، ومشبعة بالأفكار السياسية الاجتماعية الغربية.(5)
هذه الحركة لم تلق نجاحاً بشكل عام، خاصة في شرق أوروبا، فقد تعّرضت لمقاومة شديدة من المتشدّدين اليهود ومن الرأسماليين والحاخامات في غرب أوروبا أصحاب المصلحة في البقاء على الوضع الرّاهن. فأخذتْ الحركة الصهيونية على عاتقها مهمة التوفيق بين المتشددين والمستنيرين كحلّ بديل لما يسّمى" المسألة اليهودية". فرفضت الاندماج بالشعوب رغم موافقتها على الخروج من قوقعة الغيتو ، ورفضت فكرة " الغيتو الدولي الكبير " ولهذا وظفت الدين اليهودي لمواجهة تيار الاندماج الناشط في أوساط يهود أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، فتشكّلتْ عدّة حركات وأحزاب دينية تحت إشرافها على رأسها " حركة مزراحي" عام 1902، التي قامتْ بنشاط "ثقافي- ديني" في أوساط اليهود. وأدخلت مفهوم وحدة اليهود في أعماقهم وأقنعتْ الجماهير اليهودية المتدّينة أنّ العمل الفعلي لعودة اليهود إلى أرض الوطن لا يرتبط بالاعتقاد اليهودي التقليدي حول عودة المسيح، وأنّ العودة إلى صهيون واجب ديني.(6)
كان من مهّمات هذه الحركة والحركات الصهيونية الأخرى ، العمل من خلال التعليم الديني على فرض روح الإحساس بالعزلة، وتلقين اليهود أنّ الاندماج بالشعوب مخالف لقوانين وتعاليم الديانة اليهودية، بالإضافة إلى غزو الحركات الدينية المعارضة، والتسّلل إلى صفوفها لتطويعها لصالحها، حيث كانت هناك تيارات دينية ترى أنّ العودة إلى صهيون ، إنّما هي عودة روحية تتّم بإرادة إلهية مع عودة المسيح قبل نهاية الزّمان، وأنّ أي عمل سياسي أو تحرك لتنفيذ هذه العودة عن طريق تهجير اليهود إلى فلسطين هو ضرب من الهرطقة، ولا يجمعه شيء مع الدين اليهودي، بل هو مخالف لتعاليمه ومضرٌّ باليهود وبمصالحهم. وقد استطاعت الحركة الصهيونية أن تؤثّر في كثير من هذه الحركات وتحوّلها من حركات مناوئة للصهيونية إلى حركات توراتية متزمتة مؤيدة للصهيونية ومنسجمة مع أهدافها وتطلعاتها .(7)
وهنا لابّد من الإشارة إلى أنَّ اليهود في البلاد العربية والإسلامية وعلى الرغم من عزلتهم داخل أحياء خاصّة ، كانوا يعاملون معاملة تختلف تماماً عن يهود أوروبا من حيث المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت كلّ الظروف متاحة لهم للذوبان في مجتمعاتهم هذه ، نظراً لتسامح العرب والإسلام تجاه الأديان السماوية.(
ففي اليمن ازدهرت حياتهم وتطورت تجارتهم وثقافتهم وتوسعت ممتلكاتهم وانتشرت معتقداتهم حتى الدرجة التي اعتنق فيها ملك اليمن" أبو كريبه أسد طوبان" وابنه ذو نواس، ديانتهم حوالي القرن الخامس بعد الميلاد. وقد استمّر وجود هذه الطائفة في اليمن حتى العصر الحاضر الذي تدخلّت فيه الحركة الصهيونية واقتلعتهم من أماكنهم.(9)
وفي الإسكندرية بمصر كانت الجالية اليهودية تتمّتع بكامل حقوقها المدنية والدينية، وكان تعدادها يفوق تعداد كل الجاليات اليهودية في العالم، وقد أدارت ظهرها لصهيون، واستمرت في حياتها الهادئة المستقّرة تمارس شعائرها الدينية في معابدها الخاصّة. وخلال النصف الأوّل من القرن العشرين أطلقت أيديهم في الصحافة المصرية فضلاً عن الصحافة اليهودية فكان لهم أساتذة في المعاهد المصرية، ولعبوا دوراً هاماً في مجال المال والاقتصاد، فأثرى عدد كبير منهم، كما كان لهم مقاعد في مجلس النواب المصري، وفي عام 1924 عيّن وزير يهودي للمالية في الحكومة المصريةهو:" يوسف قطاّوي باشا." (10)
كما تغلغلوا في جميع نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق، وقد ازدهرت حياتهم في العصر العباسي وارتقوا مراكز ذات تأثير، ومنذ الأيام الأولى للتاريخ الإسلامي عمد الخلفاء إلى إعطاء اليهود امتيازات مهمّة، فكان لهم في العراق مدرستان متخصّصتان بالدراسات اليهودية والتلمودية في مدينتي صورة وبمبديثة، حققتا ازدهاراً تحت الحكم العباسي جعلهما القبلة التي يقصدها اليهود من طالبي العلم من جميع أنحاء الشتات العالمي. وكان الرئيس الأعلى لهاتين المؤسّستين يدعى " ألفون" ويعتبر المصدر الأعلى للفتاوى اليهودية لجميع العالم، وكان مسؤولاً عن الاستئناف وتعيين القضاة اليهود في عموم العالم الإسلامي. وقد عرفت القرون الخمسة للتاريخ اليهودي تحت الحكم الإسلامي "بالعصر الفوني" ومن أشهر من ارتقى هذا المنصب "سعديا بن يوسف الفيّومي" من الفيوم بمصر، وأصبح رئيساً لأكاديمية صورة لغزارة علمه، ومن أعماله ترجمة العهد القديم إلى اللغة العربية، فأصبح الحاخامون يتلون النسخة العربية في صلواتهم في الكنس، ومع اللغة العربية أصبح اليهود يسّمون أنفسهم أيضاً أسماء عربية صرفة.(11)
أمّا الشؤون الدنيوية فقد تركت بيد رئيس الشتات الذي احتّل مركزاً مرموقاً في حياة المجتمع، ومن أشهر من شغل هذا المنصب" صموئيل بن علي" المعروف بأبي الدستور. وقد تحدّث عنه الرّحالة اليهود ممّن عاصروه، فقالوا إنّه كان يملك ستّين عبداً ويعيش في قصر فخم مغطّى بنفائس السّجاد، ويرتدي ملابس فاخرة موشاة بالذهب، ومن هؤلاء الرّحالة" بنيامين" الذي زار بغداد في حدود سنة 566 هـ 1170م ووصف استقبال الخليفة له فقال إنّه كان يركب إلى القصر لابساً الحرير الموشّى وعلى رأسه عمامة بيضاء مطرّزة بالجواهر، وتتبعه ثّلة من الفرسان، وكان المنادي يسير في مقدمة الموكب وهو يهتف بالنّاس: افتحوا الطريق، افتحوا الطريق لمولانا ابن داود. وعندما كان الرئيس يدخل البلاط، كان الخليفة ينهض من مكانه ويحّييه ويجلسه على كرسّي مقابل له، بينما يقف جميع الأمراء لتحيّته.(12)
فاليهود في العراق كانوا أقلية غنّية نالت من التعليم والثروة والمناصب . ومّما يذكر أن" مناحيم دانيال" الوجيه اليهودي الكبير وأحد الإقطاعيين في بابل، وجّه رسالة إلى المنظّمة الصهيونية في أيلول 1922 انتقد فيها النشاط الصهيوني في العراق، وتغلغله بين الطبقات الفقيرة. وفي تشرين الثاني 1928 نشر المحامي يوسف الكبير وهو محامي يهودي شهير، نشر رسالة في جريدة الأوقاف العراقية فنّد فيها الادعاءات الصّهيونية وهاجم المقترحات الرامية إلى خلق وطن قومي يهودي في فلسطين .(13)
وعندما نشبت حرب 1948 مع الكيان الصهيوني كانت العاصمة بغداد تغصّ بالنشاط الإعماري اليهودي الذي شمل تأسيس مدينة بكاملها" مدينة بغداد الجديدة". ونقرأ أنّ الحكومات في بغداد كان لها الدور البارز في الضغط على اليهود ليرحلوا إلى فلسطين وذلك بالتعاون مع الصهيونية العالمية. ويشير إلى هذا الأمر "إسحق بارموشيه" في قصصه وذكرياته عن الخروج من العراق قائلاً:" كلّ هذا بالطبع لم يكن ليحملنا أفراداً أو جماعات على الظّن بأنّ هجرة جماعية إلى البلاد المقدّسة هي من الأمور التي يتعّين علينا انتظارها. إلاّ أنّ الحكومات السعيدية التي تصرّفت بغباوة مطلقة وكان همّها قبل كل شيء إنقاذ نفسها من كراهية الشعب ، قدّمت للحركة الصهيونية أكبر خدمة عندما تبّنت خطّة نازية لمضايقة اليهود، ثم لاقتلاعهم من جذورهم.(14)
ورغم صدور القانون الخاّص بحرية تخّلي اليهود عن الجنسية العراقية والهجرة إلى الكيان ، فإنّ عدداً قليلاً من اليهود بادروا إلى ذلك. واضطرت الأجهزة الصهيونية إلى القيام بسلسلة من التفجيرات الإرهابية في المناطق التي اعتاد اليهود ارتيادها لإشاعة الذعر في نفوسهم، على أساس أنّ الجمهور يبّيت لهم مذابح رهيبة. فكان الزّحام على مكاتب إسقاط الجنسية، وقد أصيب عدد من اليهود في هذه الحوادث، وأقام أحدهم وهو "خضوري سليم" دعوى على الحكومة الصهيونية يطالب فيها بتعويض عن فقد إحدى عينيه في الانفجار الذي أحدثته المنظمة الصهيونية في الكنيس ببغداد . وأدّت الدعوى إلى قيام ضجّة عارمة في الأوساط الصهيونية تتساءل عن حقيقة ما جرى ، وأوردت مجلة " هاعولام هازيه" تفاصيل العمليات الصهيونية لإشاعة الرّعب في صفوف المواطنين اليهود في العراق . وقدّر للسلطات العراقية أن تعثر على المسؤولين الصهاينة عن العمليات الإرهابية، وتلقي القبض عليهم مع كميات من المتفجرات والأسلحة. وبعد إحالتهم إلى محاكمة علنية تحت أنظار المراقبين الدّوليين حكم على اثنين منهم" جوزيف بصري وأبراهام صالح" بالإعدام، وسجن الآخرون.(15)
وفي الأندلس رحّب بهم الخلفاء ومنحوهم حقوقاً متساوية وحرّية كاملة وذلك عندما هاجروا من بغداد إثر الغزو المغولي لها . وحمل علماء المدرستين العراقيتين كتبهم وآثارهم وتلامذتهم معهم إلى الأندلس. وهناك وصل كثير منهم إلى مناصب عالية في الدّولة مثل" جسداي بن شبروط" الذي دخل في خدمة الخليفة عبد الرحمن الثالث طبيباً ومستشاراً، وعمل كسفير للخليفة كونه يجيد العربية والّلاتينية والعبرّية . وأيضاً" صموئيل بن تغدلة" الذي لعب دوراً مشابهاً في غرناطة التي كانت تسّمى "مدينة اليهود" لكثرة عدد اليهود فيها والتي ما زالت أحياؤهم قائمة فيها.(16)
وقد برز علماء وفلاسفة يهود في هذه الحقبة شاركوا العرب المسلمين في التدوين والترجمة للكتب اليونانية مثل:" إبراهيم بن داود " من طليطلة. ثم بزغ نجم الفيلسوف" موسى بن ميمون" وقد صاحب المفكر العربي الأندلسي ابن رشد ، وسكنا في بيت واحد وأظهرا الاتجاهات الإنسانية نفسها. وعندما استقرّ في الفسطاط بمصر اتخذه صلاح الدين الأيوبي طبيباً له. (17)
عندما تقدّمت الجيوش المسيحية في أسبانيا نحو الجنوب 794هـ 1391 م، جرت حملة دامية لإخراج اليهود من شبه الجزيرة الأسبانية، فلجأ الكثيرون منهم إلى الجزائر، فأسرع السكان العرب الجزائريون إلى بناء بيوت خشبية مرتجلة لإيواء مجموع اللاجئين وإغاثتهم . وبعد سنوات قليلة أصبح هؤلاء اللاجئون أغنى تجاّر المنطقة ينقلون البضائع بين غربي أفريقيا وسواحل البحر الأبيض المتوسط حتّى سمّي طريق تلمسان التجاري عبر الصحراء" طريق اليهود ".(18)
وحظي اليهود بنفس المكانة والمعاملة في البلاد العربية الأخرى فكان منهم الوزراء مثل الدكتور بنزاكين في المغرب وأندريه بسيس وأندريه باروخ في تونس، ونقرأ أنّ ملك المغرب محمد الخامس وقف إلى جانب اليهود ضدّ حكومة فيشي الفرنسية الخاضعة لألمانيا الهتلرية عندما حاولت أن تضطهد يهود المغرب، حيث دافع عنهم مؤكداً أنّهم مواطنون عرب مغربيون.(19)
الصهيونية دمرت علاقات التعايش السّلمي التي كان اليهود يتمتعون بها في الدول العربية واقتلعتهم من مناطقهم عن طريق إثارة الخوف من الاضطهاد فسحبت حوالي (650000) يهودي من العراق واليمن وسورية ومصر وتونس والجزائر ومراكش وغيرها من الدول العربية الأخرى، فقد كان يسكن في العراق وحدها حوالي مئة ألف يهودي عند قيام الكيان الصهيوني.(20)
لقد وظّفت الصهيونية الدين اليهودي توظيفاً سلبياً لتحقيق أهدافها العدوانية فنقلته من نظرية روحانية إلى واقع مادي، واتبعت أساليب الترهيب والترغيب للضغط على اليهود واقتلاعهم من مناطقهم وتهجيرهم إلى فلسطين العربية. وهي تسعى دوماً ومن خلال مراكزها الدعائية المنتشرة بكثرة في أكثر دول العالم إلى التأكيد على أنّ خطر الّلاسامية لا يزال قائماً وعلى يهود العالم أن يتضامنوا مع الكيان ويرتبطوا بعجلة المصير الواحد والولاء الواحد لهذا الكيان. وقد أنشأت وتنشئ مئات المعسكرات التثقيفية لتلقين اليهود اللغة العبرّية والمبادئ الصهيونية وضرورة العمل على دعم الكيان الصهيوني، وتقوم مراكزها الدعائية بترويج الأفكار الدينية واستحضار التراث الغيبي لخلق جيل يهودي متعصّب مؤمن بأبدية العداء للسّامية وحقّ اليهود بالعودة، ووحدة ونقاء الشعب اليهودي.
إنّ البحث في هذا الموضوع ليس جديداً، فقد تعّرض له كثير من الكتاب والباحثين وقدّمت الموسوعة الفلسطينية مزيداً من التفصيلات حول الصهيونية وأهدافها وألقت الضوء على التعاليم الدينية اليهودية، ومع هذا فإّن دراستي هذه تطمح أن تضيف معلومات جديدة، وأن تضيء بقعة نحتاجها في تاريخنا المعاصر خاصّة في هذه المرحلة التي تسعى فيها الصهيونية للسيطرة على الشارع العربي والعقل والثروات العربية سياسياً بعد أن فشلت عسكرياً.
فالتركيز على التعاليم الدينية اليهودية التي لا تزال المحور الرئيسي الذي تدور من حوله كل شؤون الحياة اليهودية، وفضح ما تخفيه من نزعات مشبعة بالعدوان والعنصرية والتسّلط، يساهم في فهم الشعارات المزيّفة التي ترفعها الصهيونية وعلى رأسها شعار " السلام". فهي تريد استسلام العرب وليس السلام مع العرب، لأّن السلام الحقيقي العادل والشامل، سلام الشجعان لا تريده ، إنّها تريد ما قاله إشعّيا أحد أنبياء اليهود:
"بالوجوه إلى الأرض يسجدون لك ، ويلحسون غبار رجليك" (21)
" بنو الغريب يبنون أسوارك، وملوكهم يخدمونك، تنفتح أبوابك دائماً ليؤتى إليك بغنى الأمم، وتقاد ملوكهم".(22)
" يقف الأجانب ويرعون غنمكم، ويكون بنو الغريب حراّثيكم وكرّاميكم أما أنتم فتدعون كهنة الرّب، تأكلون ثروة الأمم، وعلى مجدهم تتآمرون "(23)
---------------------------------
(1)كانوا يرتدون الزّي الطويل، ويطلقون لحاهم وسوالفهم ويرتدون قبعات . ولا يزال هذا الزّي حتى الآن يّميز اليهود عن الآخرين.
(2)الشولحان عاروخ، بالعبرية تعني" المائدة المجهّزة" وهو كتاب ألفّه الحكيم اليهودي يوسف كاروه، أحد حكماء صفد في القرن الخامس عشر ميلادي، ويقسم إلى أربعة أقسام:
1- نهج الحياة: ويتناول الصلوات والأعياد والمواسم
2-معلم المعرفة: ويتناول المحلّل والمحرم من المأكولات والطهارة والنجاسة والصدقات والنذور والحداد والختان
3-الحجر المغني: ويتناول قضايا الزواج والطلاق
4- صدر القضاء: ويتناول أحكام المعاملات والحقوق والميراث والشهادة والوصاية والعقود.
أنظر مجلة عالم المعرفة- العدد 102 حزيران 1986" الشخصية اليهودية (الإسرائيلية) والروح العدوانية"- الدكتور رشاد عبد الله الشامي- ص 20- 27-
(3)الهسكالاه: حركة يهودية ثقافية طرحت تعديلات جذرية في الدين اليهودي، حيث سعت لتحقيق الخلاص بالاعتماد على الذات وعدم انتظار المسيح للعودة إلى صهيون.
أنظر مجلة عالم المعرفة- العدد 102 حزيران 1986 حول الشخصية اليهودية والروح العدوانية، للدكتور رشاد عبد الله الشامي- الفصل الثاني .
(4) نفس المصدر- الفصل الثاني.
(5) نفس المصدر- الفصل الثاني.
(6) "الأحزاب (الإسرائيلية) والحركات السياسية في الكيان الصهيوني"- صادر عن مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية، دمشق 1986- باشراف حبيب قهوجي- الطبعة الأولى 1985 ص 167- 168.
(7)نفس المصدر ص 169- 170
(
"الصهيونية واللاّصهيونية"- تأليف خالد القشطيني- الموسوعة الفلسطينية- القسم الثاني - المجلد السادس- الطبعة الأولى- بيروت 1990 ص 721.
(9)"الصهيونية والّلاصهيونية" تأليف خالد القشطيني- الموسوعة الفلسطينية- القسم الثاني - المجلد السادس الطبعة الأولى: بيروت 1990- ص 721.
(10)"العرب واليهود في التاريخ" الدكتور أحمد سوسة- الطبعة الثانية- العربي للإعلان والنشر والطباعة- ص 363
(11) نفس المصدر ص 363. وانظر أيضاً " الصهيونية واللاّصهيونية- ص 725
(12) الصهيونية والّلاصهيونية- تأليف خالد القشطيني- الموسوعة الفلسطينية- القسم الثاني- المجلد السادس- الطبعة الأولى- بيروت 1990 – ص725.
(13)نفس المصدر ص 730
(14)نفس المصدر ص 730
(15)"الصهيونية والّلاصهيونية"- خالد القشطيني- الموسوعة الفلسطينية- المجلد السادس- القسم الثاني الطبعة الأولى- بيروت 1990ص 730.
(16)نفس المصدر ص 725
(17)كان صلاح الدين الأيوبي متسامحاً جداً مع اليهود، وعندما فتح القدس أرسل منادياً ينادي في أرجاء البلاد أنّ باستطاعة كل سلالة إبراهيم العودة إلى القدس. وتابع خلفاؤه نفس السياسة . أنظر "فلسطين ما بين العهدين الفاطمي والأيوبي" تأليف شاكر مصطفى- الموسوعة الفلسطينية- القسم الثاني- المجلد الثاني- الطبعة الأولى بيروت 1990 ص 498"
(18)"العرب واليهود في التاريخ"- الدكتور أحمد سوسة . الطبعة الثانية، العربي للإعلان والنشر والطباعة- ص 363
(19)نفس المصدر ص 363
(20)"الصهيونية والّلاصهيونية" خالد القشطيني- الموسوعة الفلسطينية- القسم الثاني، المجلد السادس- الطبعة الأولى- بيروت 1990. ص 730.
(21) سفر إشعّيا الإصحاح 49
(22)سفر إشعّيا الإصحاح 60
(23)سفر إشعيا الإصحاح 61